الجزائر

الكل في الجزائر يشتكي من ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة، من الطبيب والأستاذ والصحفي إلى المسؤولين في وظائف عليا..! الأجور ثابتة لا تتحرك منذ سنوات، حيث إن الفقير لم يعد وحده غير قادر على مواجهة متطلبات الحياة، حتى من يكد ويعمل ويملك الشهادات والكفاءة والخبرة، عجز في السنوات الأخيرة عن تغطية أجره الشهري حاجياته الملحة، فالراتب الذي يقبضه عن عمل شهر يتبخر غالبا في أسبوع، وهذا ما تسبب في تآكل مخيف للطبقة الوسطى التي عادة ما يرتكز عليها المجتمع لتحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي وحتى الثقافي..

قطاعات وأسلاك لوظائف عدة، احتج موظفيها وعمالها عن تدهور الأجور، التي باتت انشغالهم وهمهم الأول والأخير، ليبقى مستوى الطبقة المتوسطة، حيث الرفاهية والغنى لم يعد حلما يذكر بينهم.. وتوالت الاحتجاجات على هذه الأجور لدى موظفي قطاعي التربية والصحة، باستمرار الأسعار في الارتفاع، إلى درجة جعلت من الراتب الشهري لا يكفي إلا لمواجهة نصف شهر أو أسبوع أحيانا.

ففي المرحلة ما بين 2010 حتى 2014، رفعت أجور عمال القطاع العمومي، وتم إقرار زيادة في الحد الأدنى للرواتب، حيث كانت الطبقة الوسطى، تعيش مرحلة جميلة، ولكن اليوم باتت تتآكل بتدهور قدرتها الشرائية وتهاوي قيمة الدينار، وارتفاع الأسعار.

وكان البنك الأفريقي للتنمية قد كشف في دراسة له أجراها سنة 2013 أن 27 بالمائة من الطبقة الوسطى في الجزائر باتت مهددة بالفقر، وقال في هذا الصدد، الخبير الدولي في الاقتصاد، عبد الرحمن مبتول، في تصريح لـ”الشروق”، إن الجزائر ستواجه وضعا اجتماعيا واقتصاديا معقدا، موضحا أنه وفقًا لصندوق النقد الدولي، هناك انفجار للديون سيحدث في الكثير من الدول، حيث لدينا 98 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2020 مقابل 84 بالمائة في عام 2019.

وقد أدى، حسب مبتول، فيروس كورونا إلى زيادة الدين العالمي بمقدار 24 ألف مليار دولار في عام 2020، وتجاوزت خسائر الوظائف غير المسبوقة في جميع أنحاء العالم 114 مليون وظيفة مع امتداد الوظائف المحفوفة بالمخاطر، وبالتالي فإن خطورة الوضع الاجتماعي والاقتصادي ليست فريدة من نوعها في الجزائر.

لكن حسب ذات المتحدث، اقتصاد في الجزائر يعتمد بشكل أساسي على البترول، وبمعدل نمو منخفض وأثر ذلك بزيادة معدل البطالة، وانخفاض كبير في احتياطيات النقد الأجنبي، واتساع المجال غير الرسمي، وانخفاض متسارع في قيمة الدينار مما يفضي إلى “التضخم “.

لا زيادات في الأجور وتكريس لطبقية جديدة في المجتمع

وأضاف الأستاذ الجامعي الدكتور عبد الرحمان مبتول، أن الوضع الحالي، يفرض العديد من التحديات على الجزائر بين 2021/2024، بعيدًا عن الوعود الطوباوية، بسبب الوضع الاجتماعي والاقتصادي المعقد.

ويرى مبتول بأن الطبقة الوسطى في الجزائر تتجه نحو التآكل بطريقة متسارعة، لتنزل بذالك إلى الطبقة القريبة من الفقر والحاجة، وهي تخص الفئة، حيث أن الوضع الاقتصادي يستدعي عدم الزيادة في الأجور، بسبب تراجع احتياط الصرف ما ينذر بتكريس طبقة مقيتة وجديدة في المجتمع.

وقال محدثنا إن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها الجزائر، وما صاحبها من غلاء المعيشة والارتفاع المستمر للأسعار، جعل من الطبقة والتي تتشكل من الموظفين في القطاع العمومي كقطاعي الصحة والتربية والإدارة بصفة عامة، تتآكل وتنحدر إلى الطبقة الفقيرة، وهذا يهدد الاقتصاد الوطني ويجعلنا تلجأ حسب مبتول للاستدانة من الخارج، إذ أن الطبقة الوسطى هي الأساس المحرك والمنتجة في المجتمع.

مجتمع”الزوالية” يجذب إليه الإطارات وأصحاب الكفاءة!

وحول هذا الموضوع، عبر البروفسور محمد يوسفي، رئيس مصلحة الأمراض المعدية بمستشفى البليدة، عن الوضع الاجتماعي المؤسف الذي وصل إليه الطبيب، وهذا في ظل زيادة الأسعار، وعدم الزيادة في الأجور، وقال إن الأطباء وأغلب الموظفين العاديين في الصحة يتقاضون أقل من 80 ألف دج، مضيفا أن الإطارات والكفاءات، في القانون الأساسي للصحة العمومية، لم يعط لهم أهمية بالشكل المطلوب، حيث إن سلم القيم حسب المستوى التعليمي والخبرة، يستدعي مراجعة هذا القانون، وإعطاء كل طبيب حقه حسب ما يجب أن يكون.

ويرى يوسفي بأن قطاع الصحة العمومية، يحوي مشاكل لا تزال عالقة منذ سنوات، وأن هناك إجحافا في حق الطبيب المختص، حيث أن مستوى الأجور والمستوى المعيشي، جعل من الطبيب ينحدر إلى الطبقة الضعيفة غير قادرة على مواجهة مشاكل الحياة، وقذفت بالكثير من الإطارات إلى هذا المستوى.

الأجور لم تتغير منذ 12 سنة مقابل ارتفاع قياسي للأسعار

ممثل نقابة الأطباء الأخصائيين، البروفسور محمد يوسفي، أكد أن أجور الوظيف العمومي، لم تتغير منذ 12 سنة في مقابل ذلك، الأسعار التي ارتفعت بشكل قياسي وغير مسبوق الأمر الذي أدى بقيمة الإطارات وأصحاب الشهادات العليا، تتراجع، وعدم اعتبارهم من الطبقة الميسورة وحتى المتوسطة في الجزائر، في حين إن بعض الدول الأوروبية توزع الأجور حسب المستوى والخبرة.

وفي نفس السياق، قال الوناس غاشي، الأمين العام لنقابة شبه الطبي، إن الجزائري العادي اليوم يصرف يوميا حوالي 2000دج، و”نحن ممرضين وموظفي قطاع شبه الطبي أدنى اجر لدى الأغلبية هو 18 ألف دج، في حين إن عمالا بسطاء يقبضون أقل من هذا المبلغ”.

عمال الوظيف العمومي يتدحرجون إلى طبقة الفقراء والمحتاجين

وأكد أن قضية الأجور هي هم الجميع اليوم، ولابد من النظر فيها، لاسيما حسبه، أن موظفين في القطاع العمومي، باتوا يحسبون مع الفقراء والمحتاجين، ولم يعد يستطيعون سد كل حاجياتهم الضرورية براتب شهري، مضيفا أن الراتب ينتهي قبل 15 يوما، ولا يمكن الاستقرار إلا بزيادة 100بالمائة في الأجور.

وفي السياق نفسه، قالت الأستاذة حورية صالحي، متقاعدة من التعليم في الثانوية، أن أقدم موظفي قطاع التعليم من الأساتذة، يتقاضون بين 6 إلى 7 ملايين، في حين إن الجدد لا تصل رواتبهم الشهرية إلى المستوى المطلوب، وهي غير كافية لمواجهة غلاء المعيشة اليوم.

وأكدت أن الكثير من الأساتذة اليوم لا يقومون بوظيفتهم التعليمة في أريحية، وأن الضغط زاد عليهم في ظل ارتفاع الأسعار، وعجزهم عن سد كل الحاجيات الضرورية، وتخصيص مبالغ لقضاء العطل.

أساتذة في التعليم يستنجدون بالدروس الخصوصية و”الكلونديستان”

وحسب خبرتها ومعرفتها بميدان التربية، فإن الأساتذة المتقاعدون هم أيضا يعانون اليوم، مما جعلهم يلجؤون في كبرهم إلى العمل في بعض النشاطات، وهو حال الكثير من موظفي قطاع التربية الذين يزاولون عملهم في القطاع، ويقومون بأعمال أخرى موازية كتقديم الدروس الخصوصية، أو استعمال سياراتهم كطاكسي غير شرعي “كلونديستان”.

وقالت حورية التي كانت تدرس التربية الإسلامية في ثانوية عائشة بحسين داي، وأحيلت مؤخرا على التقاعد، إن القناعة والإيمان بأن الرزق على الله، قد يحد من الحالة النفسية للكثير من الموظفين اليوم، ولكن المطالبة بزيادة الأجور تبقى قائمة.

العيش الكريم حق دستوري.. والأزمة تهدد الجميع

ومن جهته، المحامي والحقوقي، زكريا بن لحرش، أن مرحلة جائحة كورونا أفقرت حتى أصحاب الأعمال الحرة، وأن جوانب كثيرة من الحياة مستها الأزمة الصحية، فتولدت عنها أزمة اقتصادية واجتماعية، وأدى ذلك إلى تأكل سريع للطبقة المتوسطة، حيث أن المحاميين هم أيضا أصبحوا لا يربحون من القضايا.

وأوضح أن المتقاضي تخلى عن المحامي، لعدم قدرته على مواجهة مصاريف توكيل الدفاع عنه، وحتى الوثائق التي يقدمها للمحكمة، كالدعوى القضائية، يلجأ لكتابتها عند الكاتب العمومي، وهذا تفاديا لدفع مبلغ مالي قد لا يمكن تدبيره.

وقال بن لحرش إن أدنى اجل مضمون اليوم المتمثل في 20 ألف دج غير كاف لتغطية حاجيات العائلات الجزائرية، وإن الراتب الشهري المقبول لحياة أفضل يتراوح بين 50الف دج و80 ألف دج، حيث إن الحق في الحياة والعيش نص عليه الدستور.

وأشار بن لحرش إلى أن الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، كانت قد كشفت سابقا، عن زيادة نسبة الفقر في الجزائر، واتساع رقعة الطبقة الضعيفة واتجاه الطبقة المتوسطة نحو الزوال.

الطبقة الوسطى مؤشر التوازن الاجتماعي والثقافي

وكما أكد الخبير في الاقتصاد عبد الرحمان مبتول، أن الطبقة الوسطى دليل التوازن في المجتمع، وتحقيق الإنتاج والإنتاجية، والحفاظ على التطور الاقتصادي، فإن الدكتورة ثريا التيجاني، المختصة في علم الاجتماع، ترى أن التآكل المستمر لهذه الطبقة في الجزائر وفي ظل الظروف الصعبة، قد يشعر الفرد بعدم الاعتدال والأمن.

وقالت إن الكثير من الجزائريين يشعرون اليوم بالقلق والخوف من المستقبل، حيث إن الكثير من الموظفين في القطاعين العمومي والخاص، ومنهم إطارات وأصحاب كفاءة دخلوا في معركة كفاح من أجل لقمة العيش، واتسعت الهوة بين الطبقة الغنية والفقيرة، وأن حتى الطبقة المتوسطة الموجودة اليوم، هي من أصحاب الريع الذين لا ينتجون، ولا يساهمون في خلق الثروة.

وأكدت ثريا التيجاني، أن الطبقة المتوسطة تساهم بقدر كبير في خلق التوازن في المجتمع، وخاصة تلك المتعلقة بالإنتاج والإنتاجية، حيث إن الأجور التي تكفي لسد ضروريات الحياة، تجعلها تعمل في أريحية، وتحدث ديناميكية، وتبدع في ظل اكتفاء مالي يكون منه نصيب للعطلة والراحة.

وأضافت المتحدثة أن نخبة المجتمع التي تحدث التغيير والرقي عادة ما تكون من الطبقة المتوسطة التي تتكون من الأساتذة والأطباء والجامعيين والإطارات والصحفيين والمثقفين.. فالفقير يكون غارقا في البحث عن سد رمقه ولا يفكر في التغيير والغني أيضا يهتم بجمع المال والمنتمين للطبقة الوسطى هم من يصنعون التخيير ويحققون التوازن وتراجع هذه الطبقة سيهدد الوعي الجماعي للمجتمع مستقبلا.

قد يهمك ايضاً

تزايُد استخدام إنترنت الهاتف النقال في الجزائر خلال العامين الماضيين

عودة شبكات الهاتف النقال إلى العمل في الموصل