الزميل جمال خاشقجي الاعلامي السعودي المقرب من سلطات بلاده اطلق في تغريدة واحدة على حسابه على “التويتر” بالون اختبار من العيار الثقيل يكشف عن مستقبل سعودي، عنوانه عدم الاستقرار، وربما التوتر الداخلي، وهو من المؤكد لم يقصد ذلك.
الزميل الخاشقجي الذي عمل مستشارا للامير تركي الفيصل رئيس الاستخبارات السعودي الاسبق لعدة سنوات عندما عين سفيرا لبلاده، اي الامير الفيصل، في كل من لندن وواشنطن، مما يعني انه يعني ما يقول، وان معلوماته من مصادر رسمية وثيقة جدا، خاصة عندما يبشر الشعب السعودي باجراءات تقشفية صارمة في المستقبل القريب جدا، فقد قال بالحرف الواحد “الاجراءات التي اطلقها الملك فيصل بن عبد العزيز في الخمسينات والستينات انقذت المملكة، وليتها استمرت سمة للبلاد، وحان الوقت لهكذا سياسة”، واضاف قبل يومين “التقشف عادة لا يمس الاساسيات والمشاريع الحيوية كالاسكان، وانما الكماليات، وما اكثرها، اما الوقود فهذا واجب لاننا نستهلك رزقنا”.
هناك نقطتان اساسيتان يمكن استخلاصهما من اطلاق بالون الاختبار هذا:
الاول: الحنين الى اجراءات التقشف التي طبقها الملك الراحل فيصل وانقذت المملكة.
الثاني: الاعتراف بطريقة غير مباشرة باندفاع المملكة نحو ازمة مالية خانقة.
***
نبدأ بالنقطة الاولى ونقول ان المقارنة بين الملك فيصل وحكام المملكة الحاليين ليست في مكانها، فالظروف تغيرت، ودخل المملكة بسبب ارتفاع اسعار النفط اكثر من مئة مرة، مثلما ارتفع عدد السكان ايضا سبعة اضعاف، ان لم يكن اكثر.
الملك الراحل فيصل اقدم على اجراءات التقشف لانه كان مكرها، ووصل الى العرش ليجد البلاد في حال من الافلاس، وخزائنها خاوية، وجاءت اجراءات التقشف هذه في اطار استراتيجية داخلية وخارجية تتبنى قضايا الامتين العربية والاسلامية، وتنفق كل ريال في الاتجاه الصحيح، حيث اطلق الرجل ثورة تعليمية وعلمية، وبدأ مسيرة الحداثة في البلاد.
نشرح اكثر ونقول، ان الملك فيصل طبق التقشف على نفسه قبل ان يطبقه على الشعب السعودي، وحارب الفساد من القمة الى القاعدة، ومنع الامراء من التجارة ومنافسة العامة في ارزاقهم، ولم يملك قصرا في فرنسا او المغرب، ولم يشتر جزرا في المالديف، او فيلات فخمة في سردينيا، ولم يعرف (بضم الياء) عنه مطلقا انه صاحب يخت طوله مئة متر يجوب جنوب المتوسط وشماله.
ونذهل الى ما هو ابعد من ذلك، وهو انه خاض واحدا من اشرف حروب الامتين العربية والاسلامية، عندما فرض حظرا نفطيا دعما للجيشين المصري والسوري اثناء حرب اكتوبر في رمضان عام 1973، واعلن الجهاد لتحرير الاقصى، وتعهد بالصلاة فيه، ودفع حياته ثمنا لهذه المواقف.
نعم المملكة العربية السعودية مقدمة على اوضاع مالية صعبة جدا قد تصل لمرحلة اقرب الى الافلاس بسبب سوء ادارة الثروات المالية الهائلة التي دخلت خزينتها، وعدم ترشيد الانفاق، والمبالغة في شراء صفقات اسلحة لاهداف سياسية وليس عسكرية، وشراء ذمم عظمى في ظل حالة من الارتباك غير مسبوقة.
الدراسات الغربية تؤكد ان المملكة ستواجه متاعب اقتصادية صعبة في غضون عامين بسبب اقدامها على “مقامرة” خطيرة في تشرين الثاني (نوفمير) الماضي، عندما توقفت عن سياستها في دعم اسعار النفط، وضخت اكثر من مليون برميل في الاسواق، مما ادى الى انهيار الاسعار بنسبة 55 بالمئة، والهدف هو شل الاقتصاد الايراني، واضعاف الروسي بسبب دعمهما للنظام السوري، فجاءت النتائج عكسية تماما، وفي الوقت الخطأ.
اسعار النفط انهارت ومعها منظمة “اوبك” التي من المتوقع ان تغلق مقرها الرئيسي في فيينا قريبا جدا بسبب الافلاس، وخروج اسعار النفط عن سيطرة وزرائها، وفشلها في الحفاظ على حصتها في الاسواق العالمية التي تقدر بحوالي 30 مليون برميل يوميا.
السعوديون لم يقولوا مطلقا انهم رفعوا انتاجهم من 9.5 مليون برميل الى 10.6 مليون برميل يوميا من اجل الحاق الضرر بالاقتصاديين الروسي والايراني، ولكنهم قالوا ان احد ابرز هذه المغامرة هو اغلاق معظم محطات انتاج النفط الصخري في امريكا والعالم، وحتى هذا التقدير كان خاطئا، فصناعة النفط الصخري الامريكية التي تنتج حاليا 10 ملايين برميل يوميا ذات تكلفة متوسطة، واكد مؤتمر للنفط الصخري انعقد قي هيوستن قبل اسبوعين انه بات بالامكان تخفيض تكاليف الانتاح بنسبة 40 بالمئة بسبب تطوير تكنولوجيا حفر حديثة، وتخفيض الجدول الزمني للحفر بنسبة 50 بالمئة ايضا، وهذا يمكن ان يقلص التكاليف مرة اخرى في حدود 30 بالمئة.
90 بالمئة من الدخل القومي السعودي يعتمد على النفط، ولم تقم السلطات السعودية على مدى خمسين عاما من الطفرة النفطية في توزيع وتوسيع مصادر الدخل، وايجاد مصادر اخرى للانتاج، ولهذا بلغ العجز في ميزانية العام الحالي حوالي 145 مليار دولار لانها جرى وضعها على اساس ثبات سعر برميل النفط في حدود 106 دولار، وهو ضعف الاسعار الحلية.
الاحتياط المالي السعودي وصل الى 737 مليار دولار في آب (اغسطس) الماضي، وانخفض في آب (اغسطس) الحالي الى 673 مليار دولار، بسبب عدم استثماره بشكل صحيح، هناك تقديرات تؤكد ان هذا الاحتياط سينخفض بنسبة 12 بالمئة شهريا دون سحب دولار واحد منه، وتفيد التقديرات الغربية نفسها ان هذا الاحتياط سينخفض الى 200 مليار دولار عام 2018.
***
المملكة العربية السعودية تمارس سياسة انفاق باهظة في الاشهر الستة الاخيرة، فهي تخطط لارضاء روسيا بانفاق 15 مليار دولار على صفقات اسلحة ومفاعل نووي، وتغازل فرنسا برشوة مالية مماثلة لشراء طائرات مدنية واخرى حربية، وتبذل جهودا كبرى لعدم اغضاب امريكا بالاستمرار في اعتمادها كمصدر اساسي للتسليح.
ولا ننسى التزامات المملكة تجاه مصر الرئيس السيسي، ومتطلبات حربين تخوضهما في سورية واليمن، وهناك من يقدر تكاليف الحرب الاخيرة في حدود 45 مليار دولار، غير التعويضات المستقبلية، ولا يلوح في الافق اي مخرج سياسي قريب من هاتين الازمتين.
الزميل الخاشقجي قال ان التقشف يجب ان لا يمس الاساسيات والمشاريع الحيوية، وانما الكماليات، وهذا اقرب الى التمنيات لان المواطن السعودي الفقير هو الذي سيدفع ثمن هذا التقشف من قوت يومه على شكل زيادة في اسعار الكهرباء والماء والوقود، بعد رفع الدعم عنها وغيرها من السلع الاساسية.
هناك حوالي ثلاثة ملايين مواطن سعودي يتلقون اعانة بطالة شهريا، وهذا يعني ان هناك ثلاثة ملايين عاطل عن العمل معظمهم من الشباب، واقدمت السلطات السعودية على الغاء عشرات الآلاف من البعثات الدراسية للطلاب في الجامعات الامريكية والاوروبية خفضا للنفقات.
نعم السعودية بحاجة الى الاجراءات التي اطلقها الملك فيصل ليس في مجالات التقشف، وانما العودة الى القضايا العربية واخراج المملكة من حروبها الدموية في سورية واليمن والعراق وليبيا، تماما مثلما اخرجها المرحوم من مستنقع اليمن الدموي قبل 45 عاما.