يشهد لبنان واحدة من أزمات الهوية متكررة الحدوث على أثر بلوغ طريق مسدود إزاء انتخاب الرئيس اللبناني الجديد.
قبل ستين عاما، حينما كان لبنان يحاول التخلص من الانتداب الفرنسي على أراضيه، استحضرت تلك الأزمة من قبل الرؤى المتخاصمة حيال موقع الدولة بين أوروبا والشرق الأوسط. وفي حين أن بعض الطوائف المسيحية، التي تمثل ما يقرب من نصف عدد السكان، تعتبر لبنان جزءا من الغرب المسيحي، فإن أصحاب النزعة القومية العربية يحلمون بلبنان ككتلة مشيدة لدولة عربية موحدة.
وقد وجد سبيل للخروج من المأزق من خلال صيغة «الإنكار المزدوج» التي مهدت الطريق للوفاق الوطني (الميثاق الوطني)، والمقبول ضمنيا بوصفه الدستور اللبناني المستقل. وسخر الكثيرون على كلا الجانبين، المسيحيين والمسلمين، من صيغة «الإنكار المزدوج» التي طبقا لها، لن يكون لبنان أوروبيا ولا عربيا بصورة حصرية.
استهجن الكاتب جورج نقاش صيغة «الإنكار المزدوج»، التي لا تصنع دولة!
وقد أثبت التاريخ خطأه.
صار لبنان مستباحا في الأصل بسبب تلك الصيغة المزدوجة.
وعانى النقاش المبدئي من سوء إدراك وتفهم الحقائق الواقعية لذلك الوقت.
وافترض عموم المسيحيين خطأ أن المسيحية تعتبر كيانا موحدا يمكن إلحاق لبنان إليه. وتجاهلوا حقيقة مفادها، في ذلك الوقت بالطبع، أن الدول المفترض أنها مسيحية كانت تشعل النيران في كافة أرجاء أوروبا سعيا وراء تحقيق الأطماع والطموحات القومية.
وعلى الجانب الآخر من الطيف، كان القوميون العرب رواد خيالاتهم الذاتية. وهم قد تجاهلوا أيضا حقيقة مفادها أن الهويات المحلية فعلا تتجاوز الحواجز اللغوية والانتماءات الثقافية. ومن حيث مسائل الهوية الوطنية، وكيف ينظر إلينا الآخرون، تعتبر في غالب الأمر أكثر أهمية من الكيفية التي ترى بها نفسك.
يقصر النهج الاختزالي عن احتساب التعقيدات المتصلة بهوية الشعب في أي وقت من الأوقات. وكما هو الحال لدى كافة الدول الأخرى، يعتبر لبنان مزيجا من الهويات المختلفة، ويتقاسم مكوناته مع الكثير من البلدان الأخرى، ولكنه يقدم نكهته الفريدة.
لا يمكن اعتبار لبنان دولة مسيحية فحسب أو مسلمة فحسب، باعتبار أنها كانت، ولا تزال، مسيحية وكذلك عربية مسلمة.
واليوم، يحتاج لبنان إلى «إنكار مزدوج» جديد لكسر حاجز الأزمة الجديدة التي قد تدفع الدولة إلى مستنقع من المخاطر العسيرة. هل حقا ذكرت «الإنكار المزدوج؟» ربما من الأفضل أن نقترح صيغة «الإنكار الثلاثي».
والسبب وراء ذلك هذه المرة يكمن في أن الشريحة العربية المسلمة من لبنان تعاني من انقساماتها الداخلية، حيث يرى المجتمع السني اللبناني نفسه وريثا شرعيا للتقاليد العربية المؤسسة هناك قبل ستين عاما مضت، في حين أن المجتمع الشيعي اللبناني، بدوره، منقسم بين أولئك الحالمين بإلحاق لبنان بالإمبراطورية الشيعية بقيادة إيران والآخرين الراغبين في اعتبار إيران صديقة وليست زعيمة.
ويسلط المأزق الحالي في لبنان الضوء على الأزمة الراهنة حيال انتخاب الرئيس الجديد للبلاد. وبمزيد من اليقين، منذ اتفاق الطائف في عام 1989، لم يعد الرئيس هو الشخصية البارزة في البلاد كما كان كذلك بموجب الميثاق الوطني لعام 1943. ومع ذلك، وبصفته رئيسا للدولة والحكم بين مختلف الطوائف، لا يزال الرئيس قادرا على المساهمة في صوغ السياسة الوطنية.
وبتنحية الخلافات الداخلية جانبا، نجد أن الفصائل السياسية اللبنانية المتنافسة منقسمة بين كتلتين ونصف. إحداهما، يقف على رأسها تنظيم حزب الله ومن ورائه إيران، ويرغب في تولي الجنرال السابق ميشال عون رئاسة البلاد. والكتلة الأخرى، تقودها حركة المستقبل، وهي تشجع ترشيح سمير جعجع لرئاسة الجمهورية. ونصف الكتلة المتبقية هو ما يمثل طائفة الدروز، التي، من واقع إدراكها أنها لن تتمكن من فرض خيارها، عقدت العزم على الحيلولة دون تولي كل من عون أو جعجع سدة الحكم.
ويثير الموقف برمته الاهتمام من عدة زوايا، إذ تدعم إيران الجنرال عون على سبيل النفعية، والجنرال السابق مكروه في طهران حيث لم تنس القيادة هناك، ولم تغفر كذلك، تعاونه مع صدام حسين وإسرائيل في فترة الثمانينات. والفرضية الطهرانية المطروحة تفيد بأن عون، يفتقر إلى وجود شعبية انتخابية حقيقية وراءه، فليس لديه من خيار سوى تتبع خطى طهران حيثما ذهبت. وذلك، ومع ذلك، قد يكون من قبيل سوء تقدير الحسابات، فليس للجنرال عون ولاء إلا لذاته وليس من دليل قائم يفيد تخليه عن كراهية إيران. والأسوأ من ذلك برغم كل شيء، أن الجنرال عون يعد شخصية مثيرة للانقسامات في توقيت يتوق فيه لبنان إلى التوحد.
ومن جانبه، يعتبر جعجع كذلك مرشحا إشكاليا، حيث تستند جل فلسفته السياسية على الاشتباه والشكوك في العروبة وخشيته من إمكانية تآمر المسلمين لاستئصال شأفة المسيحيين في لبنان. وعلاوة على ما تقدم، وباعتباره شخصية بارزة في الحرب الأهلية اللبنانية، يستفز جعجع الكثير من ذكريات الانقسام شأنه شأن عون.
لن يتصور نجاح أي من عون أو جعجع إلا من زاوية الانهزام الشامل لإحدى الكتل أو الأخرى المتناحرة في الداخل اللبناني.
ومن المثير للسخرية، أن تتصادف الأزمة الراهنة مع فترة من التوترات الاستثنائية التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وحالة عدم الاستقرار المثمنة لقيمة لبنان كملاذ للسلام.
وبالتأكيد على الانتصار الكامل، قد تفقد الفصائل اللبنانية المتناحرة فرصة يمنحها التاريخ للدولة لتصور ذاتها كشريك رئيسي في إعادة صياغة شرق أوسط جديد ومستقر.
إن الاستيلاء الكامل من قبل إيران قد يحرم لبنان من الدور المستقل الذي يسعى إليه، رابطا مصير البلاد بنظام الخميني في طهران في وقت لا يزال مصير الدولة يشوبه الكثير من الارتياب. وعلى الجانب الآخر، فإن الانتصار الكامل للكتلة العربية من شأنه كذلك تقويض حرية التصرف اللبنانية، وتحويل الدولة إلى لاعب ثانوي في صراع إقليمي كبير.
وفي كافة التكوينات الجيوسياسية التي تتنافس فيها مختلف الكتل والفصائل، يعد وجود الفراغ المحايد أمرا حتميا لازما. فلما يربُ على القرن من الزمان حينما كانت أوروبا تشتعل بأوار من نار، حافظت الفصائل المتناحرة دوما على حياد الدولة السويسرية نظرا لأن الجميع يفيدون منها. وفي جنوب القارة الأميركية، لعبت دولة الأوروغواي دورا مماثلا بينما كانت البرازيل وتشيلي والأرجنتين تناطح بعضها بعضا في تنافسات متناقضة. ولستة قرون مضت، لعبت تايلاند ذات الدور في الهند الصينية.
تستفيد القوى الإقليمية المتناحرة وحلفاؤها خارج المنطقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة من جانب وروسيا من جانب آخر، جميعها من حالة التسوية السياسية في لبنان. يمكن لشخصية توافقية، لا متحمسة ولا مهددة لأي فصيل من الفصائل المتنافسة، مساعدة لبنان في اتخاذ موطئ قدم جديد في السياسة الإقليمية على أساس من «الإنكار الثلاثي».